كم هي كبيرة جدا أرضنا الكروية التي نعيش
فوقها بالمليارات، وكم هي أيضا ضئيلة للغاية عندما ننظر اليها من بعيد أو من قريب
جدا. ويا لسهوة التنقل بين الرؤيتين.
منذ القدم والبشر يعيشون بين هاتين
الرؤيتين، حجم المادة، وحجم العقل الذي يستوعب المادة. وبين هاذين العملاقين نشأت
ثقافات وديانات الجنس البشري. بين فكر شرقي متمثل في حضارت وفلسفات تشعل طاقات
الانسان الباطنة وتحوله لمخلوق خارق بقدرات لم يكن ليحلم بها وتمنحه سعادة
النيرفانا فلا يشعر بألم أو ضعف البشر، وبين حضارت وفلسفات الغرب المادية
المستكشفة لغوائر وعجائب وملذات الكون الفسيح اللانهائي، بدأت بتأملات واجتهادات
عمالقة الفلسفة الغربية وانتهت بعلماء الإلحاد وملذات الدنيا الفانية.
وبين القطبين الشرقي والغربي بني ايمان
وعقائد البشر، ومن ثم افعالهم، وبالرغم من النقيد البين بين العالمين، الا انهم لا
يختلفان كثيرا، فكلاهما يضعان الانسان في بؤرة الاهتمام والتركيز، فسواء الغرب
الذي يسعى ليسخر الكون والمعرفة لخدمة الانسان، أو الشرق الذي يسخر الانسان لخدمة
نفسه، فالانسان يبقى في العالمين هو سيد نفسه.
كل اتباع العالمين يعيشون حياتهم متجهين
بثقة وايمان لتحقيق اهدافهم، سواء التمكن من العالم اكثر أو التمكن من الذات أفضل،
هذا ان كانوا من الدؤوبين المجاهدين، أما الاتباع الشكليين، فايضا يعيشون حياتهم
يمضونها في محاولاتهم لتقليد اتباع عقيدتهم الموروثة. وهكذا يجد الانسان هدفا يعيش
من اجله ويمضي به ايام وسنين عمره.
إلي ان تأتي تلك اللحظات التي يدرك فيها ان
كل ما كان يؤمن به ما هو الا سراب، أو وقود يسير ماكينته البيولوجية لتصير منتجة
ومفيده لعالمه، هذه اللحظات لا تأتي الا للمحظوظين فقط، عندما يمرضون، أو يصابون
بحادث يؤدي الي اعاقتهم، أو يفقدون احد احبائهم، أو غيرها مما اتفق القطبين على
تسميتها "مصائب".
هذه اللحظات يشعر فيها الانسان ان النور
الذي يسير فيه تحول مرة واحدة الي ظلام، وأن كل ما كان يعيش من أجله، اثبت أنه لا
يستحق تلك المعاناة.
فتجد الاديان الشرقية تهرب الي التوحد
والعبادات الشكلية الطقسية ذات المؤثرات الحسية لتطفئ انين الانا، وتجد اللاديانات
الغربية تسعى للمخدرات الكيميائية أو ببساطة تقرر انهاء حياتها
"بالانتحار".
من الصعب جدا أن يتنازل الانسان عن وهم
قوته وقدراته وحريته وقيمته، من الصعب جدا أن يصدق الانسان انه ليس مسؤولا عن شئ
لأنه اصغر من ان يكون مسؤولا، من الصعب جدا ان يستسلم الانسان لفكرة انه لا يملك
شئ، لا ذات ولا مال ولا جاه ولا نفوذ ولا حرية ولا سلطة ولا حتى جسد أو عقل أو
ارادة أو ذات، بل هو كله مملوك لخالقه الذي "به" صار ابن الملك وبدونه
هو لا شئ.
وحدها رسالة المسيح فتحت هذا الطريق، حتى
وان كانت هناك ديانات اخرى تعتبر الانسان عبد لربه، ولكنها ايضا اعطت هذا العبد
حقوقا ودورا ومسئولية وهدفا وثواب وعقاب، فجعلت منه عبدا ومسؤولا في نفس الوقت.
أما المسيح فقد حمل مسؤولية الانسان عنه،
حمل خطية الرغبة في الصيرورة مثل الله (التفاحة = المعرفة) وأعطاه فرصة العودة من
جديد لإدراك النور الحقيقي، أن الانسان بذاته سيتألم ويدفع ثمن لعنته في عبودية
وهم الحرية والتمكن، أما بتواضعه وتخليه عن ذاته وممتلكاته سيصير حرا بحق.
هكذا الصلاة الحقيقية التسليمية هي اعلان
أن وقتك ورغباتك وطلباتك ليسوا ملكك بل لخالقك، أيضا الصوم هو اعلان ان جسدك ليس
مسؤوليتك لتنميه وتغذيه وتزيده صحة وجمالا فهو ليس ملكك بل لخالقك، هكذا أيضا
الصدقة هي بدورها اعلان أن ما تملكه ليس ملكا لك ولا حقا تستحقه بقدراتك ومواهبك
بل هو ملك للذي وهبه لك ومنحك اياه فلا تبخل أن تهبه.
الصلاة والصوم والصدقة والحياة بلا خطية
ليست فروضا تؤهلك للجنة وتحصنك من جهنم، فان فعلتها لهذا الهدف ضاعت قيمتها وعدت
من جديد لتصير مثلك مثل من يؤمن ان في يده مفاتيح حياته. انما هي أعلى درجات
التواضع، هي اعلان وايمان، مثلها مثل كل ما تفعله في حياتك المحدودة، أنك ... طفل.
بالرغم من ضعفه، وغرائزه الكثيرة غير
المحكومة، فهولا يقلق أو يخاف من شئ، وحده الطفل لا تشغل باله مسؤولية أو هموم،
وحده الطفل لا يشعر بالفقدان أو قيمة الاشياء أو الاشخاص، وحده الطفل لا يهمه أن
يكون بصورة ما ليرضي بها نفسه أو أخرين، وحده الطفل لا يشغله مستقبل أو مال أو جاه
أو علاقات يكسبها أو يخسرها.
لذلك قال المسيح:
"الحق أقول لكم ان لم تستطيعوا أن تصيروا
مثل هؤلاء الاطفال لن تستطيعوا أن تدخلوا ملكوت السموات"